“لا أعرف ممن ورث هذا المتعجرف غلظته! لا ياسر ولا شاكر رحمهما الله ولا سامر يحفظه الله فيهم شيء من الفظاظة.. بل هم في منتهى التهذيب واللطف والهدوء.. أما هذا.. أعوذ بالله! متوحش وأخرق… انظر ماذا فعل؟”
وأنهيت المكالمة وبقيت جالسة على الجمر المتقد أنتظر اتصال سامر, وهاتف المنزل وهاتفي المحمول كلاهما في حظني… فيما عيناي محملقتان في ساعة يدي…
مرت الدقائق تلحق بعضها بعضا… والهاتفان لا يرنان…
لم أطق صبرا حاولت الاتصال بوليد دون جدوى واتصلت بسامر فقال إنه لم يجده في المزرعة وأن هاتفه المحمول مغلق طوال الوقت…
في هذه اللحظة حضر زوج خالتي وعلم بما حصل وبدوره صار يحاول الاتصال بوليد عبر هاتفه بلا فائدة…
مضى الوقت.. ولا من خبر من أو عن وليد..
نبضات قلبي آخذة في التباطؤ.. أطرافي ترتجف خوفا وقلقا..
أنظاري متمركزة على الهاتفين وعلى الساعة.. والآن لم تعدعيناي بقادرتين على الرؤية… الضباب كثيف.. لا بل هي قطرات الندى.. لا بل الدموع… تريد الانطلاق من محجري…
وبعد ما يفوق الساعة… رن هاتفي المحمول… نظرت إلى الشاشة فرأيت اسم سامر…
أجبت بسرعة:
“نعم سامر هل كلمته؟؟”
قال:
“كلا.. إنني الآن عند باب المنزل”.
“المنزل؟”
“أعني منزل خالتك… هل حسام هناك؟”
وطلبت من حسام الذهاب لاستقبال سامر… غادرت خالتي المجلس وعاد حسام مع سامر… والأخير بدأ التحية والسؤال عن الأحوال ثم سألني مباشرة:
“ماذا حدث؟؟”
قلت بشكل غير مرتب:
“خرج غاضبا… إنها خالتي… إنه موعد إقلاع الطائرة… هل سافر بدوني؟؟”
رآى سامر اضطرابي فحاول تهدئتي ثم قال:
“لن يفعل ذلك… لكن أخبريني ما الذي حدث بالضبط؟”
قلت منفعلة:
“خالتي تشاجرت معه… إنها يقسون عليه ولا يحترمونه ولا يثقون به”.
أبو حسام قال مدافعا:
“ليس الأمر كذلك لا سمح الله.. أنه ابننا مثل حسام ومثلك يا سامر ولكن أم حسام جن جنونها مذ رأت الفتاة بالعكاز والجبيرة… تعرف كم تحب ابنة أختها وتقلق عليها ولا تريدها أن تبتعد عنها”.
قلت بغضب:
“لكن لا ذنب لوليد فيما حصل لي… لماذا تنظرون إليه هكذا؟؟ إنه يعتني بي جيدا ويعاملني بكل احترام وحنان وأدب… وأنا لا أسمح…لا أسمح..”
“الموظف أكد لي أن اسم وليد شاكر جليل… أدرج مع قائمة أسماء المسافرين الذين ركبوا الطائرة المتجهة إلى الجنوب”.
نظرت إليه بتشتت… بضياع بعدم تركيز.. بعدم تصديق.. بانهيار..
“لا!”
سامر كان ينظر إلي بقلق وخوف…
قلت:
“وأنا؟؟”
لا زال سامر ينظر إلي.. والتعاطف ينبثق من نظراته…
كررت:
“وأنا؟؟ ماذا عني أنا؟”
سامر قال:
“وليد لن يفعل شيئا كهذا لسبب تافه… أخبريني ماذا حصل بالتفصيل يا رغد”.
قلت وأنا أنهار:
“لا أعرف.. أخبروني بأنه وصل.. فأتيت إلى هنا ولم أجده.. رحل فجأة.. تشاجر مع خالتي في دقائق معدودة.. وغادر غاضبا.. خالتي أهانته.. لا أعرف ما قالت بالضبط لكنها عارضت سفري معه بدون الشقراء.. لا بد أنها رمته بألفظ قاسية.. إنها تكرهه ولا تثق به.. تعيّره بالمجرم.. وتنعته بالمتوحش وخريج سجون.. وكلمات جارحة ومهينة… آه يا إلهي.. وليد لا يستحق هذا..”
وأخفيت وجهي خلف يدي اليسرى من مرارة الموقف.. وعصرت عيني دموعا شجية…
“عندما يصل إلى المنزل سنهاتفه… لا بد أنه كان غاضبا… لكنه سيهدأ”.
قلت بلهفة:
“هل تظن أنه سيعود؟”
قال:
“بل أنا على يقين من ذلك.. اطمئني..”
ثم أطرق برأسه إلى الأرض وشرد قليلا… ثم قال:
“لم أكن أعلم بأنهم يسيئون إلى أخي…”
نظرت إليه فإذا بالاستياء البالغ يعشش على قسمات وجهه وإذا بكفيه ينقبضان بشدة غضبا…
نظر إلي وألقى علي سؤالا:
“أأنت من أخبرهم عن سجنه؟؟”
أطرقت برأسي… وأومأت نفيا… وكانت نظرات الاتهام تشع في عينيه… وقبل أن أتكلم سمعنا صوت خالتي تلقي بالتحية وهي تطل علينا عند الباب… التفتنا إليها فإذا بها تقبل يتبعها حسام يحمل صينية أكواب الشاي…
وبعد حوار سريع وسطحي سألت:
“هل رد عليكم؟”
قال سامر:
“ليس بعد فهو في الطائرة الآن”.
قالت:
“إذن فقد سافر”.
ثم أضافت:
“رافقته السلامة”.
لم أحتمل ذلك.. هببت واقفة هامة بالانصراف… فإذا بسامر يهب واقفا هو الآخر ويستأذن للمغادرة…
ناداه حسام:
“والشاي؟؟”
فرد مقتضبا:
“في مناسبة أفضل”.
وغادر المكان…
في الردهة… رأيت حقيبة سفري لا تزال واقفة قرب الباب.. تنتظرني.. أشحت بوجهي بعيدا عنها فاستقبلتني أعين ابنتي خالتي اللتين تقفان على بعد تراقبانني…
وبعد عناق الأعين جاء دور عناق الأذرع والأحضان…
وليد قلبي… سافر ليس فقط من دوني.. بل ودون وداعي.. ودون أن يكلمني.. ودون أن تقع عيناي عليه ولو لنظرة أخيرة..
***************************
تسع ساعات وأنا أحاول الاتصال بشقيقي من حين لحين وبجميع الأرقام التي لدي دون نتيجة..أخذ القلق يتفاقم في صدري, خصوصا وأن رغد تتصل بي مرارا وتهول الأمر.. حتى أنها أقترحت علي مهاتفة صديقه سيف غير أنني عارضت الفكرة وطلبت منها الانتظار حتى صباح اليوم التالي.
وفي الصباح اتصلت بهاتفه فوجدته لا يزال مغلقا, وبالمنزل فلم يجبني أحد, ثم بهواتفه المباشرة في مكتبه في مقر عمله, فأخبرت وبأنه قد اتصل بهم قبل فترة وأبلغهم عن عودته من السفر…
على الأقل أعرف الآن أنه وصل إلى المدينة الساحلية بسلام..
اتصلت برغد وأخبرتها بالجديد وكنت أظن أنها سترتاح للخبر غير أنها انزعجت وحزنت كثيرا…
كان أخي قد قضى في شقتي عدة أيام وقد كانت أياما جميلة أنعشت في صدري الذكريات الماضية التي لن تعود.. الجميلة والمؤلمة معا.. وكان أشدها إيلاما هي ذكريات والدينا رحمهما الله…
لم تمض سنة بعد على مصرعهما.. والنار لا تزال تتأجج في صدري.. ولن تخمد أبدا..
وهو السبب الأول الذي كان يمنعني من العودة إلى المدينة الساحلية والعيش في بيتنا القديم المليء بالذكريات.. مع شقيقي الذي ما فتىء يطلب مني هذا..
أما الثاني فهو بلا شك رغد…
وفي هذه المرة ألح علي شقيقي للسفر معه وأبلغني بأن خطيبته لن ترافقه وبأنه لا يستطيع ترك رغد في بيت خالتها فهي بحاجة لمتابعة العلاج وكذلك الدراسة..
وقد خططت جديا للحاق به عما قريب.. خصوصا وأنا أرى أنه من الأفضل لي الابتعاد عن هذه المدينة لبعض الوقت..
أثناء وجودي في مقر عملي في المدينة التجارية عاودت الاتصال بهاتف شقيقي وللمفاجأة كان مفتوحا.
رن عدة مرات قبل أن يجيب وليد أخيرا:
“السلام عليكم”.
“مرحبا سامر… وعليكم السلام ورحمة الله”.
وكان صوته منهكا:
“كيف حالك؟ وحمدا لله على سلامة الوصول”.
“سلمك الله”.
يرد بجمل قصيرة وعلى عجل.
سألته:
“ما هذا يا وليد! ألف مرة أتصل بك وهاتفك مغلق؟”
“نعم. لقد تركته مغلقا منذ الأمس”.
سألت:
“أقلقتنا.. ماذا حصل؟ هل أنت بخير؟”
“نعم.. نعم”.
قلت:
“تبدو مشغولا”.
أجاب:
“أجل..”
قلت:
“حسنا.. سأتصل لاحقا.. أرجوك لا تغلق الهاتف..”
“حسنا”.
وانهينا المكالمة ومباشرة هاتفت رغد وأخبرتها فأبلغتني بأنها ستتصل فورا.
بعد قليل اتصلت بي وأخبرتني بأن وليد لا يجيب. أبلغتها بأنه مشغول واقترحت عليها الاتصال بعد ساعة أة أكثر.. واتصلت بي بعد ساعة ثم بعد ساعة أخرى تخبرني بأنها كلما اتصلت بهاتف وليد وجدته مفتوحا ولكنه لا يجيب.
على هذا النحو مر ذلك النهار وفي الليل اتصلت به ودار بيننا حديث قصير امتنع فيه وليد عن ذكر ما حصل يوم أمس. أظهر لامبالاة غريبة عندما حدثته عن رغد.
باختصار.. شقيقي كان غاضبا جدا من عائلة الخالة أم حسام بما فيهم رغد ولا يرغب في الإتيان بذكر أي منهم.. على الاطلاق..
كان هذا غريبا لكن الأغرب.. أنه وبعد يومين بعث إلي بظرف عبر البريد الجوي الموثق… يحوي وثائق هامة… طلب مني الاحتفاظ بها… وأخبرني بأنه مسافر إلى خارج البلاد للاستجمام.
الظرف كان يحوي تقريرا طبيا مفصلا عن إصابة رغد.. وصورا لبطاقته العائلية الشاملة لاسم رغد.. وشيكا مصرفيا بمبلغ كبير.. وتوكيلا مؤقتا باسمي لأتولى الوصاية على رغد..خلال الفترة التي سيقضيها في الخارج…
هكذا سافر وليد قبل أن يترك لنا المجال للاستيعاب…
ويمكنكم تصور وقع نبأ كهذا على الفتاة التي كانت تحترق رمادا من أجل مهاتفته.. والتي تتلوى شوقا لعودته.. وتتصل بي عشرات المرات من السؤال عنه..
عندما رأيت ما حل بها.. تقلبت في مخيلتي ذكريات قديمة أخرى.. كانت مركونة بإهمال في إحدى نتوءات دماغي.
حدث ذلك قبل تسع سنين عندما كنا في المدينة الساحلة في بيتنا القديم.
بعد أن غادر وليد المنزل, أصيبت رغد بحالة افتقاد مرضية إله.. في تلك الفترة رفضت الذهاب إلى المدرسة وصارت تلازم والدتي كالظل حتى في النوم وتراودها الكوابيس المفزعة وتصحو من النوم مفزوعة وتصرخ (أريد وليد.. أريد وليد)
كانت أشبه بالمذعورة وقد أدخلناها للمستشفى بسبب رفضها للطعام وزاد الأمر سوءا الحرب والتدمير الذي تعرضت له مدينتنا وجعل الناس جميعا يعيشون حالة ذعر هستيري.
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت حالتها حتى قرر والدي رحمه الله الهجرة إلى الشمال الذي كان ينعم بأمان حتى العام الماضي..
ومن سيء إلى أسوأ تدهورت نفسية رغد بعد سفر وليد المفاجىء هذا ووجدت نفسي أعاصر إحدى أسوأ الفترات العصبية التي عاشتها من جديد…
******************************
منذ ذلك اليوم المشؤوم… الذي رحل فيه وليد بعد شجاره معي… ووالدتي طريحة الفراش في المستشفى والأطباء قرروا إجراء عملية جراحية لقلبها المريض.. أخيرا…
كان خالي يواضب على الاتصال بوليد الذي لم يكن يجيب… حتى رد اليوم وأبلغ خالي بأنه مسافر إلى خارج البلدة لبضعة أسابيع.
تدهورت صحة والدتي لما علمت بالخبر من خالي.. وها نحن نجلس إلى جانبيها في غرفة العناية القلبية المركزة.. والطبيب يبقي كمامة الأوكسجين على وجهها ويمنعها عن بذل أي مجهود يتعب قلبها.
أنا أمسكبيدها أضمها إلى صدري وأقبلها وأدعو الله أن يشفيها عاجلا…
التفت والدتي إلي وسألتني:
“ألم تتصلي بزوجك؟”
فأجبتها:
“كلا”.
فقالت:
“هل يعلم بأنني في المستشفى؟”
فقلت:
“نعم. فقد أخبره خالي بذلك”.
ونظرت إلى خالي الذي حرك رأسه مؤيدا. فقالت أمي:
“إذن لماذا لا يحضر لزيارتي؟ ليس من عادته التخلف في موقف كهذا”.
أجاب خالي:
“لأنه مسافر حاليا”.
فنظرت إلي وشدت على يدي وقالت:
“يا ابنتي.. هل تخفين عني شيئا؟”
فقلت:
“كلا”.
ولكنها بدت متشككة واستدرت إلى خالي وسألت:
“هل تخفون عني شيئا يا أخي؟”
فقال أخي:
“ربما حصل شيء.. بعد ذلك الشجار… ربما وليد نفذ ما طلبته أروى… لا أريد أن أرحل وأنا غير مطمئنة على ابنتي”.
قربت رأسي من رأس أمي وأخذت أحضنها وأقبلها وأقول:
“لا تقولي هذا يا أمي أرجوك”.
وهي تتابع:
“الأعمار بيد الله.. نسأله حسن الخاتمة”.
فلم أتمالك نفسي وفاضت الدموع في عيني.. وقلت:
“أرجوك يا أمي لا تتحدثي هكذا.. شفاك الله ومد في عمرك.. أنا من لي غيرك في هذه الدنيا؟”
وأحسست بيدها تمتد وتلامس يدي ثم سمعتها تقول:
“لا زوجك.. وخالك.. يرعاكم الله”.
ثم التفتت إلى خالي وقالت:
“أخي يا قرة عيني.. أحضر وليد وصالحهما أصلح الله لك آخرتك.. الشاب جيد ومن خيرة الرجال وأنا ما كدت أصدق أنني وجدت من أستأمنه على ابنتي مهجة قلبي”.
خالي مسح على رأس أمي وقال:
“لا تشغلي بالك بهذه الأمور يا أم أروى هداك الله.. إنه شجار عابر يحصل بين أي زوجين وينتهي”.
لكن أمي أبدت عدم التصديق مخاطبة خالي:
“لا تدعه يذهب يا إلياس.. ما كان نديم ليطلب من شخص عادي أن يهتم بعائلته”.
ثم التفتت إلي وقالت:
“لو لم يكن رجلا بمعنى الكلمة.. لما تمسك بالمسؤولية عن ابنة عمه اليتيمة بهذا القدر”.